يكاد المسؤولون الإيرانيون ينفردون إقليميا وعالميا، بشدة تأكيدهم على مفهوم السيادة الوطنية وأهمية الحفاظ على هذه السيادة والدفاع عنها بكل القوة الممكنة.

في الحقيقة لا يحضر مفهوم السيادة وتفرعاته الكثيرة في اللغة السياسية، عبر الخطابات والتصريحات الرسمية أو غير الرسمية، لأي دولة في المنطقة أو العالم، باستثناء كوريا الشمالية، على النحو الذي يحضر فيه في السياق الإيراني.

"السيادة" في الفهم الإيراني ليست فقط مفهوما قانونيا ينظم العلاقات بين الدول، بل هو حس عاطفي عميق بالعزة الوطنية واستعداد سياسي شديد لتحدي الآخرين الذين يخرقون هذه السيادة ومواجهتهم بكل السبل المتاحة. 

هذا الحس المفرط بالسيادة والحساسية العالية تجاه ما يبدو خرقا لها مرتبط، في جزء كبير منه، بتجربة تاريخية طويلة، متقطعة في الغالب، تمتد لنحو قرنين من الإملاءات الخارجية على إيران، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، من قوى غربية وشرقية (روسيا، بريطانيا، أميركا).

الأكثر حضورا في الذهن الإيراني بهذا الصدد، هي تجربة إطاحة المخابرات البريطانية والأميركية بحكم محمد مصدق، رئيس الوزراء اليساري المنتخب ديمقراطيا، واستعادة حكم الشاه الموالي للغرب محمد رضا بهلوي في 1953.

حتى الاعتذار الأميركي الرسمي لإيران الذي قدمته وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في عام 2000 لم يخفف من غضب الاستذكار الإيراني من كامل تلك التجربة.

السيادة الوطنية والاعتزاز بها تُرجمت إلى قيم كثيرة في السياق السياسي الإيراني بعد الثورة الإسلامية في 1979، قيم تتمحور حول الاعتماد على الذات والنظر بارتياب إلى الآخر، وخصوصا الغربي، على نحو فيه الكثير من المبالغة، في الدستور الايراني مثلا يُحذر من الأضرار بالاستقلال الثقافي للبلاد، فضلا عن الاستقلال السياسي والعسكري والاقتصادي.

فهل يمكن لبلد أو أي مجموعة في العالم أن تكون مكتفية بنفسها ثقافيا، بحيث لا تحتاج إلى الاطلاع على أفكار أخرى مختلفة والتفاعل معها والتأثر بها؟ الاستقلال الفكري أو الثقافي هو أحد أشكال الاستبداد السياسي الذي يقوض فكرة حرية التعبير لأنه يفرض رقابات على الفكر "الصحيح" من الفكر "غير الصحيح".

مفهوم السيادة في الدستور، كما في الممارسة السياسية الايرانية، هو مفهوم ازدواجي، في ظل تعريفه الانتقائي على أساس أيديولوجية الإسلام السياسي الايرانية التي لا تعترف بهذا المفهوم عند تعلقه بالدول الأخرى.

فمثلاً عندما يرد الحديث عن دور القوات المسلحة الإيرانية في المقدمة الطويلة للدستور، يُشير النص إلى رؤية توسعية إسلاموية صريحة لا تعترف بحدود الدول الأخرى.

"ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم".

من الواضح أن الفهم الأخلاقي الذي تمنحه إيران لنفسها هنا ولدورها الديني في العالم يسمح لها بتجاوز سيادة الدول الأخرى تحت اسم "حاكمية القانون الإلهي. هل تستطيع دول أخرى أن تفعل ذات الشيء نحو إيران من دون أن تتهمها الأخيرة بأنها تخرق سيادتها؟

الازدواجية الصارخة في الفهم الرسمي الإيراني للسيادة يبرز واضحا في الفقرات الدستورية التي تتعاطى مع السياسة الخارجية الإيرانية، ففي الدستور تمنح الجمهورية الإسلامية لنفسها حقا كونيا غير مشروط بالدفاع عمن تعتبرهم مظلومين، إذ يدعو الدستور إلى "تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الاخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم".

في غياب أي تحديد قانوني دولي ملزم لمعنى المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية هذه، فضلا عن تعريف مصطلح مستضعفي العالم، تحمل هذه الفقرة دعوةً صريحة لتدخل إيران في شؤون الدول الأخرى على أساس معايير تحددها الدولة الإيرانية نفسها وليس لها طابع الإلزام خارجها. 

يتأكد طابع هذه الدعوة ويتحدد أكثر في فقرة أخرى من الدستور الايراني اكثر تفصيلاً (الفقرة 154) إذ تشير هذه الفقرة "وعليه فان الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة في العالم ، وفي نفس الوقت لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى".

رغم التناقض الواضح بين بداية الفقرة المُقتَبسة (حق التدخل في أي مكان في العالم)، ونهايتها (عدم التدخل في شؤون الشعوب الأخرى)، فإن روح الفقرة قاطع باولوية التدخل الإيراني لصالح "المستضعفين ضد المستكبرين" بعيداً عن الاعتبارات السيادية والانتماءات الوطنية لهؤلاء "المستضعفين" و"المستكبرين".

لا يمكن لمنظومة الدول الحديثة والقانون الدولي أن يتكيفا مع فقرات دستورية كهذه تمنح فيها دولة ما لنفسها أولوية التدخل في شؤون الدول الأخرى، على أساس اعتبارات دينية واخلاقية وإيديولوجية تضعها هذه الدولة نفسها، فيما لا تتمتع دول أخرى بنفس هذا الحق، على أساس المعاملة بالمثل.

فمثلا لو قررت مصر أو المغرب أو تركيا أن هناك مستضعفين أو مضطهدين سياسيا في إيران وأرادت مساعدتهم من خلال تمويل تنظيمات سياسية ومسلحة تعمل في الداخل الإيراني، ألن تعتبر إيران هذا تدخلا صريحا في شؤونها الداخلية؟ بالتأكيد ستفعل ذلك وسيكون هذا من حقها، لكنها في ذات الوقت تفعل كل هذه الأشياء في بلدان أخرى كالعراق ولبنان على مدى عقود وتعتبره حقا مشروعا وترفض النقد الموجه لها بهذا الصدد.

يخطئ من يظن أن هذه اللغة السياسية، التي تتشح بطابع ديني واخلاقي، والداعية للتدخل في شؤون البلدان الاخرى تمثل مجرد لحظة حماسة ثورية عامة وجارفة وجدت طريقها إلى الدستور الإيراني، هذه اللحظة الإيديولوجية، وإن تكن حماسية، فأنها بالتأكيد ليست عابرة ولا عاطفية. هي تعبير حقيقي أمين عن جوهر ثورة دينية، قيمها السياسية تراثية المحتوى مرتبطة بعالم ما قبل الحداثة، ترفض الإقرار بالكثير من قيم الحداثة المتعلقة بالسيادة الوطنية والحقوق الفردية.

لن يكون بمقدور إيران أن تصبح عضوا طبيعيا في المجتمع الدولي إذا لم تتخل عن الروح التراثية التي تهيمن على فهمها لنفسها وللعالم الخارجي، وتتوقف عن اعتبار نفسها مركزا مضيئا، مُكلف إلهيا "بهداية" عالم تسوده الظلمة.